في ذكرى وفاة معلمي سيدي عزيّز جوعو رحمه الله رحمة واسعة
……المربي هوية وطن…….
«ما تجيش للايتيد اليوم نعاقبك »
هكذا خاطبني سيدي عزيّز وما عهدته يتوعدني بتلك الحدّة فقد كان يعطف عليّ بصفة خاصة ربما لنباهتي وتميزي فقد كان عقلي الصغير كالة لتخزين المعلومات تخزين جرّة أمي الكبيرة لقطرات المطر حتى تمتلئ أو ربما لفقري المدقع فلطالما يحنو عليّ وانا كالقط الشريد أتمسّح لاهثا بعتبة القسم بعد قطع كلمترات طويلة لأصل المدرسة متأخرامنفوش الشعر معفرا باتربة الطريق.
كان سيدي عزيز وسيدتي فطومة يجتهدان في ترسيمي باي قسم يناسب وصولي الى المدرسة في الوقت المحدد والمشكلة أنه لا الدوام الصباحي يناسبني ولا المسائي فالاول يجعلني أصل متأخرا والثاني يجعلني فريسة الظلام والكلاب السائبة وانا عائد إلى شط المركب طاوي البطن خائفا…
كان معلمي يعرف أنني من المعدمين ولكنه اقترح عليّ أن أواكب هذه الحصص بدون مقابل…
في الحقيقة كنت أتغيب لسبب بسيط ولكنه وجيه بالنسبة لي فكبريائي يمنعني أن أحضر دون دفع مقابل …
يومها قررت البقاء بالمدرسة بعد أن اتفقت أمي مع أخي الأكبر أن ينتظرني بمنزل جدي ليؤنس وحدتي ليلا.فأنا أخاف الطريق وخاصة كلاب الفلاحين…
دلفت الساحة عند الخامسة والنصف مساء..أحسست أنني غريب عن مدرستي…كانت الحركة دؤوبا على قدم وساق.فلكلّ في لهوه شؤون بين الجري والقفز والصياح..
أحسست وكأن هؤلاء الصبية إنما جمعتهم هذه الدروس فقط من أجل اللهو.كما تجمعهم وليمة الأعراس فيتسابقون إليها قبل الكبار علّهم يصيبون بعضا منها…
كنت كالحوشيّ اللّبك منزويا تحت التوتة التي تتوسط الساحة..ناداني المدير وهو يلوّح بمسعودته في يده كما يهش الراعي على غنمه بعصاه :
-تعال إلى هنا ماذا تترصد أيها المتشرد واقدامك غائرة في الوحل والطين كالرعاة ؟
قال لي ذلك وقد بدت على وجهه المصفرّ نظرة غريبة وكأنه شرطي أمسك بمنحرف خطير..
خاطبته مغمغما بكلمات متقطعة دون أن أرفع عينيّ عن موضع قدميّ:
-سيدي نقرا عند سيدي عزيّز…
قاطعني ناهرا بصوته الجهوري المرعد:
-ومنين جاك الفلوس وانت حوايجك بالطين وشعرك كي القفة؟ تبعني..
وتبعته الى المكتب لأخرج من عنده وقد فعلت مسعودة في جسدي المنهك فعل العصا بجلد طبل العيد،لا تكاد قدماي المتورمتان تحملانني..
الغريب في الأمر أنني لم أدافع عن نفسي ولم أتجرأ على البوح بأنّ سيدي عزيّز أعفاني من دفع معلوم دروس التدارك “الايتيد”…
من الغد،تتكرر الحادثة وإن اختلفت الاسباب لكن هذه المرة من سيدي
بسبب غيابي..مددت يديّ الصغيرتين المرتعشتين ودمعة تطفر من العين تصارع الانهمار والقلب مكسور…
لا ادري كيف ندت عن شفتيّ تلك الكلمات المتقطعة :
-سيدي المدير…سيدي المدير….
-اش بيه تكلم ولدي..
-ضربني وقالي منين جاتك الفلوس باش تقرا يا كلب يا ممسخ…
اربدّ وجه سيدي عزيّز وتغيرت سحنته بين الرقة والثورة ليضمني إلى صدره.اكاد اسمع وجيب قلبه ينتحب..ثم أبعدني عنه برفق وخرج لا يلوي على شيء…
تلاشت كل الصور من خيالي إلا صورة ذاك الثور الهائج يتجه صوب مكتب المدير وهو يشتت بقرونه كلما اعترضه وقد اختلّت زفراته المتصاعدة من أعماقه….
في تلك السنة نجح ثمانية اطفال في مناظرة السيزيام من بين مائة وثمانية وثلاثين تلميذا حيث كنت من الاوائل…
المعلم كان ولا يزال هوية وطن مكلوم يلملم شتات جراحه وهي تنزف ولا تندمل…
سيدي عزيّز غبت عنه أكثر من عقدين لألتقيه وأنا تلميذه وزميله فيتذكرني باسمي ولقبي ومكان جلوسي بالقسم وبفسيلة تلك الوردة التي أهديته إياها ولا يزال يحتفظ بها في حديقة منزله….
………………………………
رحمة واسعة لفرسان الظل الذين بنوا صرح الوطن ليعيشوا كفراش يحترق إيمانا ببؤرة ضوء تجترح العتمة…
فوزي النجار معلم وأفتخر برُوّادي
عزيز جوعو
رحمة الله عليه(ها) عزيز جوعو
Posted on 2019-02-01 by death
اترك تعليقاً